دراسة نقدية لرواية عندما تشيخ الذئاب لجمال ناجي
بقلم خليل إبراهيم عودة
هناك قول بليغ يصف واقعية أدب نجيب محفوظ
وهو انك لكي تعرف القاهرة عليك أن تقرأ أدب نجيب محفوظ , ويصدق هذا القول على رواية جمال ناجي (عندما تشيخ الذئاب ) بل إني مدين لهذه الرواية أنها فتحت لي آفاقاً كانت مغيبة عني .
امتداداً لهذا الحضور كان السؤال الذي طرح نفسه : هل أراد حقا جبل الجوفه مكانا ًوحسب ؟ أم أنه تجاوز جبل الجوفه إلى المدينة بل إلى القطر والى ما هو أشمل وأعم يصل إلى الوطن الكبير للبشرية جمعاء أينما وجد هذا الخراب .
( عندما تشيخ الذئاب ) يبدأ العنوان بظرف يصلح للزمان والمكان بمفردة واحدة نعبر زمان ومكان النص لنطل منهما على الحدث .
الحدث
فعل إشكالي متحرك يعبر متاهات اللحظة عبر حركة دائبة يلخصها الفعل المضارع , تمشي بجري يقطع الأنفاس . فعل يحمل دلالتين؛ دلالة السيادة والمشيخة والوجاهة والإمارة والتدين ، كما يحمل دلالة الهرم والشيخوخة والعجز .
فعل إشكالي متحرك يعبر متاهات اللحظة عبر حركة دائبة يلخصها الفعل المضارع , تمشي بجري يقطع الأنفاس . فعل يحمل دلالتين؛ دلالة السيادة والمشيخة والوجاهة والإمارة والتدين ، كما يحمل دلالة الهرم والشيخوخة والعجز .
كل هذا ماثل في دلالة المفردة (تشيخ ) يعززها النص ليصلنا إلى الفاعل في الزمان والمكان .
أبطال النص :
(الذئاب ): بما تحمل هذه المفردة من دلالات غنية ومتناقضة , فالذئب على شراسته فهو شجاع مقدام لهذا يسم العرب أبناءهم بهذه الصفة ويسمونهم أيضا .
عنوان يحمل دلالة الزمان والمكان والفعل والحركة والحدث والأبطال والشخوص. وما تكون الرواية غير هذا !؟؟؟
عنوان يلخص الرواية ولا يخونها قيد أنملة .
وقد لانجد هذا في أي نص يمثله عنوانه بهذا الصدق والإخلاص ويحضرني قول جبرا إبراهيم جبرا
عندما سئل عن مضمون روايته (البحث عن وليد مسعود) فقال إن أي تلخيص لهذا النص مهما
كان بليغا سوف يشوهه ويَضَعُ من شانه .
عندما سئل عن مضمون روايته (البحث عن وليد مسعود) فقال إن أي تلخيص لهذا النص مهما
كان بليغا سوف يشوهه ويَضَعُ من شانه .
لنجد أن جمال ناجي قد أبدع وتجاوز في كل شيء فقد لخص نصه بعنوان يحمل من الدلالات من شأنه أن يحمل النص مهما كان فذا ومتجاوزاً وهذا ما أظنه وما احسبه .
بل الغريب حقاً أن الزمان والمكان قد أصابهما ما أصاب الذئاب (أبطال النص) من شموخ وشيخوخة وقوة وضعف وفقر وغنى .
عنوان أمين إشكالي – ذو قراءات متعددة تماما كما هو النص في دلالاته المتعددة حتى أننا من المجحف حقا أن نقيده في واقعيته فقد تجاوز الواقع إلى ما بعده فيما سُمي بالواقعية القذرة التي نبت زغبها على الحداثة
وما بعد الحداثة والتي أرادها فلاسفة الغرب فلسفة ورؤيا لحياة ما بعد الحربين العالميتين .
وما بعد الحداثة والتي أرادها فلاسفة الغرب فلسفة ورؤيا لحياة ما بعد الحربين العالميتين .
عندما تشيخ الذئاب نص تجاوز حدود الزمان والمكان ليس لان جمال ناجي انتهى من الحداثة وما وراء الحداثة ولكن انغماسه بهَمّ إبداعه حملت النص إلى نبع ذالك الأفق .
المكان :- المكان مزبلة ومهما حاولت تنظيف المكان فستبقى في مزبلة هذا ما يقوله أحد أبطال النص .
الزمان : ما بعد أوسلو- حصار العراق ثم احتلالها .
الزمان : ما بعد أوسلو- حصار العراق ثم احتلالها .
إعدام رئيس عربي صباح عيد الأضحى – المعارضة التي هُضمت وتم إنتاجها من جديد من قبل الأنظمة . فكانت النتيجة:
التستر في الدين الذي هتك ستره الشيخ عبد الحميد الجنزير .
اليسار المتمثل بجبران أبو بصير والذي أصبح وزيراً متصالحاً مع نفسه يقول ما تقوله الأنظمة ولم ينته وزيراً ليس بسبب معارضته للنظام بل لأنه أصبح عالة على النظام فكان سقوطه مدوياً كاشفاً لا لنفسه وإنما لكل تيارات اليسار.
فساد الفطرة ويظهر هذا من خلال الأبوة والبنوة وفسادهما تماما حيث لم تعد تحمل هذا المعنى. فسندس تسامح الفئران التي قتلت أباها, بل تقول إنها ارتاحت منه .
جبران أبو بصير يقول انه ارتاح عندما رحل ولداه إلى الغرب حيث أصبحا عبئاً لا يطاق، حتى أن البيت أصبح بالنسبة إليهما فندقاً.
رباح الوجيه :علاقته بولده عزمي مفككة تقوم على الشك والحذر .
الشيخ عبد الحميد الجنزير : الأب الحقيقي لعزمي يحاول اغتياله عن طريق أحد أذرع مؤسسته الدينية , رفع الحماية عنه ليصبح طريداً من أجهزة الأمن ومن نفسه حيث تقول زوجة عزمي ( أنه لم يعد يثق بأحد حتى بها) عزمي الوجيه لدى أكتشفه متأخراً أنه ليس ابن رباح الوجيه الذي عاش في بيته وكنفه وأن أمه قد خانت ما تعارف الناس عليه أنه أبوه .
علاقة فاطمة أم سندس بأبنائها المغتربين وكيف أنهم لمجرد سماعهم أن الشرطة جاءت تسأل عن أختهم (سندس) خرجوا من المنزل ليستأجروا شققا مفروشة في عمان الغربية ولم يعودوا إليها ويصلوها بما يقيها غائلة الفقر.
الأنظمة :وهي كبطل خفي يحرك كل هذه الدمى لتنتج زمانها ومكانها الخاص لتلعب بهما كما تقتضي الضرورة . لم تكن تعتقد أنها تنتج عقمها ونهايتها وبذالك تعارض كينونتها .
وفي النهاية الكل عاقر – الزمان ، المكان ، الشخوص ، النظام – والكل سائر إلى المجهول وهو لا يعلم لنفسه سبيلا أهدى .
فالنظام الذي يعلق على إطالة عمره بما ينتج من رافعات وجد نفسه قد استنفذ ما لديه من مواد وفرص لينته الأمر بالجميع إلى الخراب والدمار والكل يجري على قرص متحرك .
فكان هذا السقوط الذي طال الجميع لاشتراكهم في هذا الاستشراء والخراب .
الشخوص :
سندس الكاسرة كما يصفها زوجها الثاني رباح الوجيه . وصف بليغ وموحٍ وبقدر ما يصف لنا سندس فهو يصف لنا أيضا رباح الوجيه كمعادل لغوي اغترف لغته من الموروث الشعبي .سندس سامحت الفئران عن ثأرها وخرجت تثأر لجسدها الذي تأخر ريه (لم يعد احد يسومني) كما تقول ، لنقف مليا عند هذا القول المنذر ببيع كل شيء .
وقد كان ما أرادت بل تجاوز الأمر إلى أنها خرجت من المزبلة إلى مزبلة أخرى ولكنها لم تلبث طويلا حتى عادت إلى مزبلتها الأولى منهكة ذليلة تلوذ بحضن أمها .
الشيخ عبد الحميد الجنزير : يحمل الاسم من الدلالات المتعددة والكاشفة ما يشي بشخصية الرجل ويقدم كدال لغوي ودال ضمني وهو بما يحمل من دلالات متعددة وثرية ينطبق على واقع الرجل نفسه من قوة وصلابة (الدلالة اللغوية والاصطلاحية ومحمولها الشعبي لمفردة شيخ ) .ثم اسم عبد الحميد وما ارتبط به من تخلف وفساد (ولو أنني كنت أتمنى على الروائي المبدع أن يتريث قليلا في اختيار هذا الاسم لما له
من ارتباط بالسطان عبد الحميد والذي تعتبر مواقفه في ذالك الوقت أكثر تقدماً من مواقف أكثر الأنظمة العربية تقدما وصلابة ).
من ارتباط بالسطان عبد الحميد والذي تعتبر مواقفه في ذالك الوقت أكثر تقدماً من مواقف أكثر الأنظمة العربية تقدما وصلابة ).
ولكن (ولا ابرر هنا بل أدين ) ما يشفع له هو الموروث الشعبي لدلالة الاسم الذي افرزه النظام العربي بعد انهيار دولة الخلافة الإسلامية . أما دلالة الجنزير فهي تقدم نفسها تماما ، مجموعة من العقد الصلبة غير المنتهية التي لا يمكن فكها أو التحلل منها ، وهو على صلابته قابلا للالتفاف على الآخر وتمكنه منه بسلاسة ومرونة .
وهو يمثل فساد جانب من الجماعات الإسلامية التي تستغل الدين لمصالحها الشخصية ولا يخلو الحديث عن مؤسسة الشيخ عبد الحميد الجنزير من إشارات تحمل في طياتها دلالات الشذوذ والكبت الجنسي – سواء لشخصه هو أو لأفراد مؤسسته من دعاة وداعيات .
هذه الشخصية على قوتها وصلابتها تتداعى لمجرد رفض سندس الزواج منه فينتهي به الأمر إلى انتظار الموت في خيمة ولكن ومما يثير الدهشة وبقدر خداعه وكذبه ينتهي به الأمر إلى خداع نفسه إذ يقول اشتقت إلى لقاء ربي وانه يشتم رائحة الجنة.
رباح الوجيه: يمثل كل المطحونين لمرحلة ما بعد النكبة الفلسطينية وهو يعتقد أن خلاص شقائه بالتخلص من جليلة زوجته (بقي لها على الجنون شحطة) والزواج من سندس التي تصغره بربع قرن بتواطؤ ومباركة أم سندس فاطمة والتي تبحث عن خلاص لابنتها التي (لم يعد احد يسومها ).
وفي نفس الوقت تجد جليلة الخلاص بالموت وكأنها على موعد معه أو كأن لها خبرة به فتتهيأ له ؛ تغتسل وتذهب إلى فراشها تنتظره فكان لها ما أرادت حيث لم يعد أي شيء مغر لها فكان خلاصها بالموت فقط وعندما يفاجئها جبران (أخوها ) بثمن الأرض التي ورثوها عن أبيهم تقول ما نفع الغنى وأنا زوجة رباح الوجيه .وهي بموتها تتخلص من عبء خيانتها لزوجها والذي لم تعد تطيق حمله.
ولكنها (جليلة ) كانت قد أعدت عزمي كما أرادت ليكون حياتها وامتدادها .فهل كان عزمي الامتداد الشرعي والمشروع ؟
نكتشف أن أرضية هذا الواقع لا يمكنها إنجاب أناس يمكنهم التغيير والإصلاح فالأرض بور والأبناء غير شرعيين على المعنى الحقيقي والمجازي .
يقع رباح الوجيه فيما اعتقد خلاصه بعد أن خطط للتخلص من جليلة فهذا الانهيار لأسرة رباح الوجيه كان بتواطؤ الجميع ,خلاص جليلة ينتهي بها إلى الموت ورباح يموت معنويا .
هذا البناء النفسي يدخله إلى قبره = بيته لنكتشف أن رباح الوجيه قد دفن في بيته لحظة مداهمة الشرطة له ليلا فيخرج بغبار شيبه وقد لفّت الظلمة بيته بعد أن قطعت شركة الكهرباء عنه التيار ، واجتثت سلطة المياه ساعة الماء انه على نحو ما يخرج من قبر .
أما بقية الشخوص فهم لا يمثلون أنفسهم ، بل هم أيدٍ ميكانيكية .
الضابط : يمثل النظام .
بكر الطايل : يمثل مؤسسة الشيخ عبد الحميد الجنزير .
أما الشخوص الحاضرون بقوة دون أن يفرد لهم النص الحديث عن أنفسهم وغيرهم فهم :
النظام برموزه وشخوصه المتعددة والذي هو بديل للدولة والذي يحرك الشخوص ويقيم زمانه هو ومكانه هو بتوازناته الخاصة به بعيداً عن الناس.
هذا النظام بمكانه الخاص وزمانه يسبح بفضاء الآخر وهو معك ورقيب أنفاسك وهو عندك ويلحظك من حيث لا تراه وهو دائماً هناك الكل يسبح في فضائه يظهر ملياً متكشفا ثم يختفي ولا تراه إلا إذا هو أراد أن يراك .
لكن فضاء هذا النظام بدا مغلقاً ومرتبكاً ولم يعد قادراً على فعل التوازن لان التوازن يحتاج إلى قوة ومراكز وبانهيار هذه القوى والمراكز التي سحقها لم يعد قادراً على توليد مراكز أخرى وقوى توليد وإفراز وعلى هذا النحو قام بتدمير أسسه وأركانه التي كان يلعب بها ويقوم عليها ويظهر هذا ملياً متكشفاً وعارياً في فلسطين والعراق ويبدو للعين البصيرة في كل الأنظمة العربية .
ومن الأشخاص الذين لم تترك لهم مساحة للحديث أيضا عزمي ليتحدث عن نفسه وغيره لكنه كشخصية مركزية رئيسية في النص ولأنه كذلك فقد أشبعه الآخرون حديثاً فقد كان الشغل الشاغل لسندس فوصفته لنا روحاً وجسداً ونفساً وهو ابن رباح الوجيه من الناحية الرسمية وما تعارف عليه الناس وهو ابن عبد الحميد
الجنزير الحقيقي وابنه الروحي حيث منحه كل ما يستطيع الأب والأستاذ .
الجنزير الحقيقي وابنه الروحي حيث منحه كل ما يستطيع الأب والأستاذ .
غير أن نجابة عزمي جعلت من الشيخ عبد الحميد الجنزير غير قادر على احتواء ابنه غير الشرعي وتلميذه وهنا يتكرس المعنى في عدم قدرة اللا شرعية على الإنجاب والتجاوز ويمكن إضفاء هذا على الأنظمة التي لا تعدو الدلاله والرمز قيد أنملة مما يجعل اللا شرعية عند عبد الحميد الجنزير والأنظمة تطارد الأبناء غير الشرعيين فينتهي الأمر إلى انكشاف ظهر عزمي وينتهي مطاردا من نفسه أولا ومن النظام ومن أبيه غير الشرعي.
وعند اكتشاف عزمي أن رباح الوجيه ليس أباه يدرك بواقعيته ونبوغه أن ما دار من حديث حول الجن وتلبسه بأمه هي إحدى الآعيب الشيخ عبد الحميد الجنزير مشفوعة بمستند شعبي كنوع من الحماية للأعراض والحرمات فكان سؤاله للشيخ عبد الحميد عندما يظهر له في خيمته وهو يؤدي مناسك الحج يسأله من هو أبوه ؟
وكعادته لم يجب الجنزير بشكل مباشر فقد أحاله إلى زوجة خاله جبران :
اسأل رابعة كيف حصلت على القلادة (قلادة أمه) ؟
ليكتشف أن هناك مقايضه تمت بين جليلة أم عزمي ورابعة امرأة خاله لتلتزم الثانية السكوت على أمر لا يمكن أن يكون إلا اكتشاف رابعة أمر جليلة بعلاقتها بالشيخ عبد الحميد الجنزير .
السؤال : كيف عرف الشيخ عبد الحميد الجنزير أمر تلك المقايضة إن لم يكن هو صاحب هذه العلاقة ؟
الرواية تحكي الكثير والكاتب مخرج وممثل ميلودراما يتقمص الشخوص وتنداح اللغة بضمير المتكلم نقرأ لغة سلفية دينية متقنة وبلغة المثقف اليساري ثم يغرف من الموروث الشعبي يحكمها ويشحنها ويمنحها الدلالات المتعددة لقد غرف نجيب محفوظ من معين العامة والبسطاء والأحياء الشعبية فألهمتنا حكمتهم التي حفظت هويتنا من فساد وخراب فطرة أدعياء الثقافة أما جبرا إبراهيم جبرا هذا العملاق الذي ارتوى من ثقافة الغرب حد الثمالة فقد فتح لنا أفقا على الغرب أذهلنا ولم يذهب عقلنا ازعم أن جمال ناجي في هذا النص قد جمع عملاقين في نص أصيل يتجاوز حد الزمان والمكان ينهض بعالمه بمفرده .
وازعم أن هذا النص يقترب كثيرا من رواية ( فتاة البرتقال ) من حيث البساطة للوهلة الأولى ويحمل في داخله متواليات من دوائر كلما عبرت أفقا تجد النص قد تجاوز إلى غيره وهكذا ......